فصل: الاحتجاج بها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


جواز

التّعريف

1 - من معاني الجواز في اللّغة‏:‏ الصّحّة والنّفاذ، ومنه أجزت العقد‏:‏ جعلته جائزاً نافذاً‏.‏ والجواز عند الأصوليّين يطلق على أمور‏:‏

أ - على المباح‏.‏

ب - على ما لا يمتنع شرعاً‏.‏

ج - على ما ليس بممتنع عقلاً‏.‏

د - على ما استوى فيه الأمران عقلاً‏.‏

هـ - على المشكوك في حكمه عقلاً أو شرعاً كسؤر الحمار‏.‏

والجواز عند الفقهاء يطلق على ما ليس بلازم، فيقولون‏:‏ الوكالة والشّركة والقراض عقود جائزة، ويعنون بالجائز ما للعاقد فسخه بكلّ حال إلاّ أن يؤول إلى اللّزوم‏.‏

كما يستعملون الجواز فيما قابل الحرام فيكون لرفع الحرج، فيشمل الواجب والمستحبّ والمباح والمكروه‏.‏ قال الزّركشيّ‏:‏ وقد يجري في كلام الأصحاب ‏(‏أي الشّافعيّة‏)‏‏:‏ جائز كذا وللوليّ أن يفعل كذا، ويريدون به الوجوب وذلك ظاهر فيما إذا كان الفعل دائرا بين الحرمة والوجوب فيستفاد من قولهم يجوز رفع الحرمة فيبقى الوجوب‏.‏

ويأتي الجواز في كلام الفقهاء أيضا بمعنى الصّحّة وهي موافقة الفعل ذي الوجهين للشّرع‏.‏

الجواز واللّزوم في التّصرّفات

2 - قال الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام‏:‏ تنقسم التّصرّفات من حيث جوازها ولزومها إلى أقسام‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ ما لا تتمّ مصالحه ومقاصده إلاّ بلزومه من طرفيه، كالبيع والإجارة والأنكحة والأوقاف والضّمان‏.‏

أمّا البيع والإجارة فلو كانا جائزين لما وثق واحد من المتعاقدين بالانتفاع بما صار إليه ولبطلت فائدة شرعيّتهما إذ لا يأمن كلّ منهما من فسخ صاحبه‏.‏

وأمّا النّكاح فلا تحصل مقاصده إلاّ بلزومه ولا يثبت فيه خيار مجلس ولا خيار شرط، لما في ذلك من الضّرر على الزّوجين في أن يرد كلّ منهما ردّ السّلع‏.‏

وأمّا الأوقاف فلا يحصل مقصودها الّذي هو جريان أجرها في الحياة وبعد الممات إلاّ بلزومها‏.‏ وأمّا الضّمان فلا يحصل مقصوده إلاّ بلزومه ولا خيار فيه ولا في الوقت بحال‏.‏

3 - ثمّ قال‏:‏ القسم الثّاني من التّصرّفات، ما تكون المصلحة في كونه جائزاً من الطّرفين كالشّركة والوكالة والجعالة والوصيّة والقراض والعاريّة الوديعة‏.‏

أمّا الوكالة فلو لزمت من جانب الوكيل لأدّى ذلك إلى أن يزهد الوكلاء في الوكالة خوف لزومها فيتعطّل عليهم هذا النّوع من النّفع، ولو لزمت من جانب الموكّل لتضرّر، لأنّه قد يحتاج إلى الانتفاع بما وكّل فيه لجهات أخر كالأكل والشّرب واللّبس، أو العتق أو السّكنى أو الوقف، وغير ذلك من أنواع البرّ المتعلّقة بالأموات‏.‏

والشّركة وكالة، لأنّها إن كانت من أحد الجانبين فالتّعليل ما ذكر، وإن كانت من الجانبين فإن لزمت فقد فات على واحد منهما المقصودان المذكوران‏.‏

وأمّا الجعالة فلو لزمت لكان في لزومها من الضّرر ما ذكر في الوكالة‏.‏

وأمّا الوصيّة فلو لزمت لزهد النّاس في الوصايا‏.‏

وأمّا القراض فلو لزم على التّأبيد عظم الضّرر فيه من الجانبين وفاتت الأغراض الّتي ذكرت في الوكالة، وإن لزم إلى مدّة لا يحصل فيها الرّبح في مثل تلك المدّة فلا يحصل مقصود العقد‏.‏ وإن لزم إلى مدّة يحصل فيها الرّبح غالبا فليس لتلك المدّة ضابط‏.‏

وأمّا العواريّ فلو لزمت لزهد النّاس فيها، فإنّ المعير قد يحتاج إليها لما ذكر من الأغراض والمستعير قد يزهد فيها دفعا لمنّة الغير‏.‏

وأمّا الودائع فلو لزمت لتضرّر المودع والمستودع، لزهد المستودعين في قبول الودائع‏.‏

4 - القسم الثّالث من التّصرّفات‏:‏ ما تكون مصلحته في جوازه من أحد طرفيه ولزومه من الطّرف الآخر، كالرّهن والكتابة وعقد الجزية وإجارة المشرك المستجير لسماع كلام اللّه تعالى‏.‏ فأمّا الرّهن فإنّ مقصوده التّوثّق ولا يحصل إلاّ بلزومه على الرّاهن، وهو حقّ من حقوق المرتهن فله إسقاط توثّقه به، كما تسقط وثيقة الضّمان بإبراء الضّامن وهما محسنان بإسقاطهما‏.‏

وأمّا عقد الجزية فإنّه جائز من جهة الكافرين لازم من جهة المسلمين تحصيلا لمصالحه، ولو جاز من جهة المسلمين لامتنع الكافرون منه لعدم الثّقة به، لكن يجوز فسخه بأسباب تطرأ منهم وذلك غير منفّر من الدّخول فيه‏.‏

وأمّا إجارة المشرك المستجير لسماع كلام اللّه تعالى فإنّها جائزة من جهة المستجيرين لازمة من جهة المسلمين، إذ لا تتمّ مصلحتها إلاّ بلزومها من قبل المسلمين، فإنّها لو لم تلزم لفات مقصودها، وهو معرفة المستجير لدعوة الإسلام والدّخول فيه بعد الاطّلاع عليه‏.‏ وللتّفصيل في أحكام هذه التّصرّفات تنظر المصطلحات الخاصّة بها‏.‏

وللتّفصيل في أحكام الجواز ينظر أيضاً‏:‏ ‏(‏إلزام، التزام، إجازة‏)‏‏.‏

جودة

التّعريف

1 - الجودة في اللّغة ضدّ الرّداءة مصدر جاد، يقال جاد الشّيء جودة وجودة - بالضّمّ والفتح - أي صار جيّداً‏.‏ ويكون جاد من الجود بمعنى الكرم يقال‏:‏ الرّجل يجود جوداً فهو جوّاد والجمع أجواد ويقال‏:‏ أجاد الرّجل إجادة إذا أتى بالجيّد من قول أو فعل‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالجودة

اعتبار الجودة في الرّبويّات‏:‏

2 - الجودة عند مبادلة الشّيء بجنسه فيما يثبت فيه الرّبا لا اعتبار لها شرعاً، لأنّ في اعتبار الجودة سدّا لباب البياعات في الرّبويّات، لأنّه قلّما يخلو عوضان من جنس عن تفاوت ما، فلم يعتبر‏.‏ فبيع الرّبويّ بجنسه عند التّساوي في الوزن أو الكيل، والتّفاضل في النّوع والصّفة كالمصوغ بالتّبر، والجيّد بالرّديء جائز، وهذا قول أكثر أهل العلم‏.‏ واحتجّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جيّدها ورديئها سواء»‏.‏

وهناك خلاف وتفصيل في بعض الصّور عند بعض الفقهاء وينظر ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏ربا‏)‏‏.‏

إظهار جودة ما ليس بجيّد

3 - لا خلاف بين الفقهاء في حصول الغشّ والتّدليس بإظهار جودة ما ليس بجيّد، إلاّ أنّهم اختلفوا في تطبيقات هذا المبدأ‏.‏ فالشّيء الواحد يعتبره بعض الفقهاء غشّا ولا يعتبره كذلك بعض آخر‏.‏ ومن أمثلة الغشّ بإظهار جودة ما ليس بجيّد‏:‏

أ - نفخ اللّحم بعد السّلخ ودقّ الثّياب‏.‏

ب - جمع ماء الرّحى وإرساله عند عرضها للبيع أو الإجارة حتّى يتوهّم المشتري أو المستأجر كثرته فيزيد في عوضه‏.‏

ج - تصرية اللّبن في الضّرع‏.‏ وللتّفصيل في الأحكام المتعلّقة بالتّدليس في المعقود عليه‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ بيع منهيّ عنه، تدليس، غرور، وغشّ‏)‏‏.‏

ذكر الجودة في المسلم فيه

4 - يشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في وجه ذكر الجودة والرّداءة في المسلم فيه لاختلاف الغرض بهما فيفضي تركهما إلى النّزاع‏.‏

ويرى الشّافعيّة على الأصحّ عدم اشتراط ذكر الجودة والرّداءة فيما يسلم فيه، ويحمل المطلق على الجيّد للعرف‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ سلم‏)‏‏.‏

ذكر الجودة في الحوالة

5 - يرى الحنابلة والشّافعيّة على الأصحّ وجوب تساوي الدّينين - المحال به والمحال عليه - في الصّفة ‏;‏ لأنّ الحوالة تحويل الحقّ فيعتبر تحوّله على صفته، والمراد بالصّفة ما يشمل الجودة والرّداءة، والصّحّة والتّكسّر، والحلول والتّأجيل‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ وفي جواز تحوّله بالأعلى على الأدنى صفة أو قدراً، ومنعه تردّد، وعلّل الجواز بأنّه من المعروف الّذي هو الأصل في الحوالة‏.‏

وعلّل المنع بأنّه يؤدّي إلى التّفاضل بين العينين‏.‏

وقال الشّافعيّة في وجه‏:‏ تجوز الحوالة بالقليل على الكثير، وبالصّحيح على المكسّر، وبالجيّد على الرّديء، وبالمؤجّل على الحالّ، وبالأبعد أجلا على الأقرب‏.‏

وأمّا الحنفيّة فلا يشترطون لصحّة الحوالة أن يكون المحال عليه مديوناً للمحيل، ومن ثمّ لا يشترط عندهم التّساوي بين المالين المحال به والمحال عليه جنساً، أو قدراً، أو صفة‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ حوالة‏)‏‏.‏

جورب

انظر مسح الخفّين‏.‏

حائط

التّعريف

1 - الحائط في اللّغة الجدار، والبستان، وجمعه حيطان وحوائط‏.‏

والفقهاء أيضاً يطلقون‏:‏ ‏"‏ الحائط ‏"‏ بهذين المعنيين‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالحائط

أوّلاً‏:‏ الحائط بمعنى‏:‏ الجدار

2 - الجدار قسمان‏:‏ خاصّ ومشترك‏.‏

أمّا الجدار الخاصّ‏:‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الجديد ‏"‏ وهو الأظهر عندهم ‏"‏ والحنابلة في وجه إلى أنّه لا يجوز للجار وضع الجذوع على جدار جاره بغير إذن مالكه، ولا يجبر المالك عليه ولكن يندب له لخبر «لا ضرر ولا ضرار»‏.‏

ولقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه»‏.‏

والمذهب عند الحنابلة وهو المذهب القديم للشّافعيّ أنّه يجبر على ذلك‏.‏

واستدلّوا بحديث الصّحيحين‏:‏ «لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره»‏.‏

وإذا انهدم الجدار الخاصّ فإنّه لا يجبر مالكه على بنائه، ويقال للآخر‏:‏ استر على نفسك إن شئت‏.‏ وتفصيل ذلك في كتب الفقه في باب الصّلح والحقوق المشتركة‏.‏

وأمّا الحائط المشترك فالكلام فيه في ثلاثة مواضع‏:‏

الموضع الأوّل‏:‏ الانتفاع به‏:‏

3 - يرى الفقهاء أنّه يمنع كلّ واحد من الشّريكين ممّا يغيّر الجدار المشترك كغرز وتد، وفتح كوّة، أو وضع خشبة لا يتحمّلها إلاّ بإذن شريكه كسائر الأموال المشتركة، لأنّ ذلك انتفاع بملك غيره، وتصرّف فيه بما يضرّ به، فلا يستقلّ أحد الشّريكين بالانتفاع‏.‏

وأمّا الاستناد إليه وإسناد شيء إليه لا يضرّه فلا بأس به‏.‏

ويرجع لتفصيل ذلك إلى مواطنه في أبواب الصّلح والحقوق المشتركة‏.‏

الموضع الثّاني‏:‏ قسمة الجدار‏:‏

4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجدار المشترك إذا كان ممّا يحتمل القسمة بلا ضرر فأراد الشّركاء قسمته جاز‏.‏ وأمّا إذا أراد القسمة أحد الشّركاء وأباها الآخر، فاختلفوا فيه على أقوال وآراء يرجع لتفصيلها إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏قسمة‏)‏‏.‏

الموضع الثّالث‏:‏ العمارة‏:‏

5 - إذا تهدّم الحائط المشترك فطلب أحد الشّريكين تعميره، فيرى الحنفيّة أنّه يجبر الشّريك الآخر على الاشتراك في عمارته إذا تعذّر قسمة أساسه، وأمّا إن كان الحائط المشترك يحتمل أساسه القسمة بأن كان عريضا جاز‏.‏

والمذهب عند الحنابلة وهو القديم لدى الشّافعيّ، ورواية عن مالك أنّه يجبر على ذلك، لأنّ في ترك بنائه إضراراً‏.‏

وذهب المالكيّة، والشّافعيّ في الجديد، وهو رواية عن أحمد إلى أنّه لا يجبر، لأنّه بناء حائط فلم يجبر عليه كالابتداء‏.‏

التّلف بسقوط الحائط

6 - إذا مال الحائط إلى طريق المسلمين فطولب صاحبه بنقضه وأشهد عليه فلم ينقضه في مدّة يقدر على نقضه فيها حتّى سقط ضمن ما تلف به من نفس أو مال، لأنّ الحائط لمّا مال إلى الطّريق فقد اشتغل هواء طريق المسلمين بملكه، ودفعه في يده، فإذا تقدّم إليه وطولب بتفريغه يجب عليه فإذا امتنع صار متعدّيا‏.‏

بهذا قال الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة وجماعة من الحنابلة وإبراهيم النّخعيّ وسفيان الثّوريّ وشريح والشّعبيّ وروي ذلك عن عليّ رضي الله عنه‏.‏

وذهب جمهور الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من بنى حائطا ثمّ مال إلى غير ملكه سواء كان مختصّا كهواء جاره، أو مشتركاً كالطّريق فلم يهدمه حتّى أتلف شيئاً لم يضمنه، ولو أمكنه وطولب به، لعدم تعدّيه بذلك، لأنّه بناه في ملكه ولم يسقط بفعله فهو كما لو سقط من غير ميلان‏.‏ وتنظر التّفاصيل في أبواب الضّمان والدّيات من كتب الفقه عند الكلام عن أحكام الحائط المائل‏.‏

تنقيش حائط القبلة

7 - يرى جمهور الفقهاء كراهة النّقوش على المحراب وحائط القبلة، لأنّ ذلك يشغل قلب المصلّي، كما أنّه إخراج للمال في غير وجهه‏.‏

وقيل لا بأس بتنقيش المسجد لما فيه من تعظيم شعائر الإسلام‏.‏

هذا إذا فعله من مال نفسه، أمّا تنقيش المسجد من مال الوقف فغير جائز، ويغرم الّذي يخرجه سواء أكان ناظرا أم غيره‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ مسجد‏)‏‏.‏

كتابة القرآن على الحائط

8 - ذهب الشّافعيّة وبعض الحنفيّة إلى كراهة نقش الحيطان بالقرآن مخافة السّقوط تحت أقدام النّاس، ويرى المالكيّة حرمة نقش القرآن واسم اللّه تعالى على الحيطان لتأديته إلى الامتهان‏.‏ وذهب بعض الحنفيّة إلى جواز ذلك‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ قرآن‏)‏‏.‏

إجارة الحائط

9 - يرى جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ جواز إجارة حائط لحمل خشب عليه لأنّ في ذلك نفعاً مباحاً، إلاّ أنّ الحنابلة والشّافعيّة في قول يشترطون لصحّة إجارة الحائط أن تكون لحمل خشب معلوم ولمدّة معلومة‏.‏

أمّا الشّافعيّة في الأصحّ عندهم فلا يشترطون فيها بيان المدّة، لأنّه عقد يرد على المنفعة وتدعو الحاجة إلى دوامه فلم يشترط فيه التّأقيت كالنّكاح‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى عدم جواز إجارة الحائط ليبني عليه المستأجر بناء أو يضع عليه خشبا، لأنّ وضع الجذع وبناء السّترة يختلف باختلاف الثّقل والخفّة، والثّقيل منه يضرّ بالحائط والضّرر مستثنى من العقد دلالة‏.‏

وليس لذلك المضرّ حدّ معلوم فيصير محلّ المعقود عليه مجهولا‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ لو كان له وضع خشبة على جدار غيره لم يملك إعارته ولا إجارته، لأنّه إنّما كان له ذلك لحاجته الماسّة إلى وضع خشبه، ولا حاجة إلى وضع خشب غيره فلم يملكه، وكذلك لا يملك بيع حقّه من وضع خشبه، ولا المصالحة عنه للمالك ولا لغيره‏.‏

ولو أراد صاحب الحائط إعارة الحائط أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحقّ من وضع خشبه لم يملك ذلك لأنّه وسيلة إلى منع ذي الحقّ من حقّه فلم يملكه كمنعه‏.‏

ومن ملك وضع خشبه على حائط فزال بسقوطه أو قلعه أو سقوط الحائط، ثمّ أعيد فله إعادة خشبه، لأنّ السّبب المجوّز لوضعه مستمرّ فاستمرّ استحقاق ذلك‏.‏

وإن زال السّبب مثل أن يخشى على الحائط من وضعه عليه‏.‏ أو استغنى عن وضعه لم تجز إعادته لزوال السّبب المبيح‏.‏

الدّعوى في الحائط

10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الرّجلين إذا تداعيا حائطاً بين ملكيهما وتساويا في كونه متّصلاً ببنائهما اتّصالاً لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط، مثل اتّصال البناء بالطّين، أو تساويا في كونه محلولا من بنائهما، فهما سواء في الدّعوى، فإن لم يكن لواحد منهما بيّنة تحالفا ويجعل بينهما نصفين، وبه قال أبو ثور وابن المنذر أيضاً‏.‏

وإن كان الحائط متّصلاً ببناء أحدهما دون الآخر فهو له مع يمينه عند جمهور الفقهاء‏.‏

وإن كان لأحدهما خشب موضوع، فذهب الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّه لا ترجّح دعواه بذلك، لأنّ ذلك ممّا يسمح به الجار، وقد ورد الخبر بالنّهي عن المنع منه‏.‏ ويرى الحنفيّة ما عدا محمّدا أنّه لا ترجّح الدّعوى بالجذع الواحد، لأنّ الحائط لا يبنى له، ويرجّح بالجذعين لأنّ الحائط يبنى بهما‏.‏

وعند المالكيّة ترجّح به الدّعوى، لأنّه منتفع به بوضع ماله عليه، فأشبه الباني عليه، والزّارع في الأرض‏.‏ وكذا لا ترجّح الدّعوى بكون الدّواخل إلى أحدهما، ولا بكون الآجرّ الصّحيح ممّا يلي ملك أحدهما، وإقطاع الآجرّ إلى ملك الآخر عند جمهور الفقهاء، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمّد يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط، لما روى نمران بن جارية التّميميّ عن أبيه‏:‏ «أنّ قوماً اختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خصّ فبعث حذيفة بن اليمان ليحكم بينهم فحكم به لمن تليه معاقد القمط، ثمّ رجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال‏:‏ أصبت وأحسنت» وروي نحوه عن عليّ رضي الله عنه‏.‏ ولأنّ العرف جار بأنّ من بنى حائطا جعل وجه الحائط إليه‏.‏

هدم الحائط

11 - متى هدم أحد الشّريكين الحائط المشترك بينهما‏:‏ فإن خيف سقوطه ووجب هدمه فلا شيء على هادمه، ويكون كما لو انهدم بنفسه، لأنّه فعل الواجب وأزال الضّرر الّذي قد يحصل بسقوطه‏.‏ وإن هدمه لغير ذلك فعليه إعادته سواء هدمه لحاجة أو غيرها‏.‏

وسواء التزم إعادته أو لم يلتزم، لأنّ الضّرر حصل بفعله فلزم إعادته‏.‏

ومن هدم حائط غيره ضمن نقصانه، وليس له أن يجبره على البناء كما كان، لأنّ الحائط ليس من ذوات الأمثال‏.‏ واستثنى بعض فقهاء الحنفيّة حائط المسجد‏.‏

بناء الحائط الجديد

12 - إن لم يكن بين ملكي الشّريكين حائط قديم فطلب أحدهما من الآخر مباناته حائطاً يحجز بين ملكيهما فامتنع لم يجبر عليه، وإن أراد البناء وحده لم يكن له البناء إلاّ في ملكه خاصّة، لأنّه لا يملك التّصرّف في ملك جاره المختصّ به، ولا في الملك المشترك بغير ما له فيه رسم وهذا لا رسم له‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ ولا أعلم في هذا خلافاً‏.‏

وضع الخشب على جدار المسجد

13 - صرّح الحنفيّة والحنابلة في رواية بأنّه لا يجوز وضع الجذوع على جدار المسجد وإن كان من أوقافه ولو دفع الأجرة، لأنّ القياس يقتضي المنع في حقّ الكلّ، لكنّه ترك في حقّ الجار للخبر الوارد فيه، فوجب البقاء في غيره على مقتضى القياس‏.‏

والمذهب عند الحنابلة أنّه يجوز ‏;‏ لأنّه إذا جاز في ملك الجار مع أنّ حقّه مبنيّ على الشّحّ والضّيق، ففي حقوق اللّه تعالى المبنيّة على المسامحة والمساهلة أولى‏.‏

الإحياء بتحويط الأرض

14 - يعتبر تحويط الحائط على الأرض، ممّا يحصل به إحياء الموات، ويملك بذلك، على خلاف وتفصيل في ذلك ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحياء الموات، ف /24 ص /248 ج /2‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الحائط - البستان

معلوميّة الحائط في المساقاة

15 - يشترط لصحّة المساقاة في الحائط - عند من يقول بجوازها - أن يكون شجر الحائط معلوما إمّا بالرّؤية أو بالوصف، فإن ساقاه على بستان لم يره ولم يوصف له، أو على أحد هذين الحائطين لم تصحّ المساقاة، لأنّها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فلم تجز على غير معيّن كالبيع‏.‏ بهذا قال جمهور من يرى جواز المساقاة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يشترط لصحّة المساقاة ورودها على معيّن مرئيّ للمالك والعامل، فإن ساقاه على مبهم لم يصحّ أو على غير المرئيّ لم يصحّ على المذهب‏.‏

والمساقاة بجزء من الثّمر باطلة عند أبي حنيفة‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ مساقاة‏)‏‏.‏

حائل

التّعريف

1 - الحائل في اللّغة اسم فاعل من حالت المرأة حيالا إذا لم تحمل‏.‏

ويستعمل وصفاً لكلّ أنثى لم تحمل من الحيوان والنّبات‏.‏ وضدّ الحائل‏:‏ الحامل‏.‏

والحائل أيضاً‏:‏ السّاتر والحاجز، والحاجب من حال يحول حيلولة بمعنى حجز ومنع الاتّصال، يقال‏:‏ حال النّهر بيننا حيلولة أي حجز‏.‏

ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن المعنيين السّابقين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

السّترة‏:‏

1 - السّترة هي ما ينصبه المصلّي قدّامه علامة للصّلاة من عصا أو تسنيم تراب أو غيره،وسمّيت سترة لأنّها تستر المارّ من المرور أي تحجبه فهي أخصّ من الحائل بمعنى الحاجز‏.‏

الحكم الإجماليّ

أوّلاً‏:‏ حكم الحائل بمعنى‏:‏ غير الحامل

3 - الحوائل من النّساء يجوز نكاحهنّ إذا لم يكن هناك مانع شرعيّ، كالعدّة من الطّلاق أو الوفاة، وإذا طلّقن فعدّتهنّ ثلاثة قروء - حيض أو أطهار - على خلاف في ذلك عند الفقهاء، أو ثلاثة أشهر لمن لم يحضن لصغر أو كبر‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ نكاح، وعدّة‏)‏‏.‏

وتختلف الحامل عن الحائل بأحكام مبيّنة في مصطلحي‏:‏ ‏(‏حمل، وحامل‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ حكم الحائل بمعنى‏:‏ الحاجز

أ - في الوضوء‏:‏

4 - من نواقض الوضوء عند جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ لمس الرّجل المرأة وعكسه دون حائل‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامَسْتُم النِّسَاءَ‏}‏‏.‏

وكذلك مسّ قبل الآدميّ ينتقض به الوضوء عند الجمهور إذا كان بغير حائل لما ورد في الحديث‏:‏ «من مسّ فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضّأ»‏.‏

وينتقض الوضوء بمسّ حلقة الدّبر على الجديد عند الشّافعيّة وهي رواية عن أحمد‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا ينتقض الوضوء بمسّ المرأة ولو بغير حائل، لما روي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثمّ خرج إلى الصّلاة ولم يتوضّأ»‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ المراد من اللّمس في الآية الجماع، كما فسّرها ابن عبّاس رضي الله عنه‏.‏ كذلك لا ينتقض الوضوء بمسّ الفرج عند الحنفيّة ولو بغير حائل، «لقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن عليّ حين سأله هل في مسّ الذّكر وضوء‏؟‏ قال‏:‏ لا هل هو إلاّ مضغة منك أو بضعة منك»‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏وضوء، ولمس‏)‏‏.‏

ب - في الغسل‏:‏

5 - من موجبات الغسل إيلاج الحشفة أو قدرها في قبل أو دبر على الفاعل والمفعول به، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل»‏.‏

فإذا كان الإيلاج بغير حائل وجب الغسل اتّفاقاً‏.‏ أنزل أو لم ينزل‏.‏

أمّا إذا كان بحائل ففيه خلاف ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏غسل، وجنابة‏)‏‏.‏

ج - في استقبال القبلة‏:‏

6 - الفرض في استقبال القبلة في الصّلاة على من يعاين الكعبة إصابة عينها، أي مقابلة ذات بناء الكعبة يقينا، وهذا بالاتّفاق‏.‏ أمّا غير المعاين الّذي بينه وبين الكعبة حائل فهو كالغائب على الأصحّ عند الحنفيّة، فيكفيه استقبال الجهة‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الفرض لمن قرب منها إصابة العين، ثمّ فصّل الحنابلة فقالوا‏:‏ إن تعذّرت إصابة العين بحائل أصليّ، كجبل ونحوه اجتهد إلى عينها، ومع حائل غير أصليّ كالمنازل لا بدّ من تيقّنه محاذاة القبلة بنظر أو خبر ثقة‏.‏

ولم يفرّق الشّافعيّة بين الحائل الخلقيّ والحادث فقالوا‏:‏ لو كان حاضراً بمكّة وحال بينه وبين الكعبة حائل خلقيّ كجبل، أو حادث كبناء جاز له الاجتهاد إذا فقد ثقة يخبره، لما في تكليفه المعاينة من المشقّة‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏استقبال القبلة، ج 4/ ص 64 / 65‏)‏‏.‏

د - مسّ المصحف‏:‏

7 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم بالحدث مسّ المصحف بلا حائل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ‏}‏‏.‏ وفي كتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم «أن لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر»‏.‏ واختلفوا في مسّه بحائل، كغلاف أو كمّ أو نحوهما‏.‏

فالمالكيّة والشّافعيّة يقولون بالتّحريم مطلقاً ولو كان بحائل‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ ولو كان الحائل ثخيناً، حيث يعدّ ماسّاً عرفاً‏.‏

وصرّح المالكيّة بحرمة مسّ المصحف وإن مسّه بقضيب ونحوه وكذلك مسّ جلد المصحف وحمله وإن بعلّاقة أو وسادة إلاّ بأمتعة قصد حملها‏.‏

والصّحيح عند الحنابلة جواز مسّ المصحف للمحدث بحائل ممّا لا يتبعه في البيع ككيس وكمّ‏.‏ لأنّ النّهي إنّما ورد عن مسّه، ومع الحائل إنّما يكون المسّ للحائل دون المصحف‏.‏

ومثله ما عند الحنفيّة حيث فرّقوا بين الحائل المنفصل والمتّصل فقالوا‏:‏ يحرم مسّ المصحف للمحدث إلاّ بغلاف متجاف - أي غير مخيط - أو بصرّة‏.‏ والمراد بالغلاف ما كان منفصلاً كالخريطة ونحوها، لأنّ المتّصل بالمصحف منه، وعلى ذلك الفتوى‏.‏

وتفصيله في بحث‏:‏ ‏(‏مصحف‏)‏‏.‏

هـ – الاقتداء من وراء حائل‏:‏

8 – جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والشّافعيّة ورواية عند الحنابلة ‏"‏ على أنّه لا يصحّ الاقتداء إذا حال بين الإمام والمقتدي جدار كبير أو باب مغلق يمنع المقتدي من الوصول إلى إمامه لو قصد الوصول إليه‏.‏ ويصحّ إذا كان الحائل صغيرا لا يمنع ذلك‏.‏

وذهب المالكيّة وهو رواية عند الحنابلة إلى عدم التّفريق بين ما إذا كان الجدار كبيراً أو صغيراً فقالوا بجواز الاقتداء إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما‏.‏ واتّفقوا على عدم صحّة الاقتداء إذا حال بين الإمام والمقتدي نهر كبير تجري فيه السّفن، ومثله الطّريق الّذي يمكن أن تجري فيه عجلة عند أكثر الفقهاء‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏اقتداء، ج /6، ص /23، 24‏)‏‏.‏

حاجب

التّعريف

1 - الحاجب في اللّغة‏:‏ من الحجب أي‏:‏ المنع، يقال‏:‏ حجبه أي‏:‏ منعه عن الدّخول أو الوصول، وكلّ شيء منع شيئاً فقد حجبه، ومنه حجب الإخوة الأمّ عن الثّلث إلى السّدس، وحجب الابن الأخ‏.‏

وقيل للبوّاب‏:‏ حاجب لأنّه يمنع من الدّخول، ومنه حاجب الأمير والقاضي وغيرهما‏.‏ والحاجبان‏:‏ العظمان اللّذان فوق العينين بلحمهما وشعرهما، سمّيا بذلك لكونهما كالحاجبين للعين في الذّبّ عنهما‏.‏

وقيل‏:‏ الحاجب‏:‏ الشّعر النّابت على العظم،سمّي بذلك لأنّه يحجب عن العين شعاع الشّمس‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

البوّاب والنّقيب‏:‏

2 - عقد الشّيخ أبو يحيى زكريّا الأنصاريّ صلة ومقارنة بين الحاجب وبين كلّ من البوّاب والنّقيب فقال‏:‏ الحاجب‏:‏ من يدخل على القاضي للاستئذان‏.‏ والبوّاب‏:‏ من يقعد بالباب للإحراز‏.‏ والنّقيب‏:‏ من وظيفته ترتيب الخصوم والإعلام بمنازل النّاس‏.‏

الحكم التّكليفي

بحث الفقهاء حكم الحاجب في مواطن منها‏:‏

أوّلاً‏:‏ غسل الحاجب في الوضوء

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب في الوضوء غسل الحاجب الخفيف‏.‏‏.‏ شعراً ومنبتاً بإيصال الماء إلى البشرة إن كانت تظهر تحت الشّعر عند المواجهة، لأنّ الّذي لا يستره شعر يشبه ما لا شعر عليه، ويجب غسل الشّعر تبعا للمحلّ، ولأنّه لا حرج في غسل منبت شعر الحاجب في هذه الحالة لخفّة الشّعر‏.‏

4 - واختلفوا فيما يجب غسله في الوضوء من الحاجب الكثيف‏:‏

فذهب الجمهور ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّه لا يجب في الوضوء غسل أصول شعر الحاجبين إذا كانا كثيفين ويكتفى بغسل ظاهر الشّعر، لأنّهما وإن كانا داخلين في حدّ الوجه إلاّ أنّ في إيجاب غسل أصول شعرهما حرجاً، ولأنّ محلّ الفرض استتر بحائل وصار بحال لا يواجه النّاظر إليه فسقط الفرض عنه وتحوّل إلى الحائل‏.‏

لكن جمهور الفقهاء اختلفوا في حكم تخليل شعر الحاجبين أو غسل باطنه في هذه الحالة‏:‏ فقال الحنفيّة‏:‏ يسنّ تخليل الشّعر الكثيف بالحاجبين في الوضوء لغير المحرم، أمّا المحرم فيكره له ذلك لئلاّ يسقط الشّعر‏.‏

وقال المالكيّة - في المعتمد عندهم - يكره التّخليل‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يسنّ غسل باطن شعر الحاجبين إذا كان كثيفا في الوضوء‏.‏ خروجاً من خلاف من أوجبه‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجب في الوضوء غسل الحاجبين شعراً وبشراً، أي ظاهراً وباطناً، وإن كان كثيفاً لندرة كثافته فألحق بالغالب وهو الشّعر الخفيف‏.‏

ثانياً‏:‏ صلاة العاجز إيماء بالحاجب

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ من أركان الصّلاة القيام والرّكوع والسّجود، وأنّه لا تصحّ الصّلاة المفروضة إلاّ بهذه الأركان - وغيرها - للقادر عليها، وأنّه إذا عجز المصلّي عن القيام يصلّي قاعداً بركوع وسجود‏.‏ فإن عجز عن الرّكوع والسّجود يصلّي قاعداً بالإيماء، فإن عجز عن القعود يستلقي ويومئ إيماء، لأنّ سقوط أيّ من الأركان لمكان العذر فيتقدّر بقدر العذر، والإيماء المتّفق عليه بين الفقهاء هو تحريك الرّأس‏.‏

6- وقد اختلفوا فيمن عجز عن الإيماء بتحريك رأسه، واختلافهم هنا يحسن معه إيراد كلّ مذهب على حدة‏.‏

المعتمد عند الحنفيّة أنّ المصلّي لو عجز عن الإيماء وهو تحريك الرّأس فلا شيء عليه، لما روي عن ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يصلّي المريض قائماً، فإن نالته مشقّة صلّى جالساً، فإن نالته مشقّة صلّى نائماً يومئ برأسه، فإن نالته مشقّة سبّح»‏.‏ أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه معذور عند اللّه تعالى في هذه الحالة، فلو كان عليه الإيماء بغير تحريك الرّأس كالحاجب لما كان معذوراً، ولأنّ الإيماء ليس بصلاة حقيقيّة، ولهذا لا يجوز التّنفّل به في حالة الاختيار، ولو كان صلاة لجاز كما لو تنفّل قاعداً إلاّ أنّه أقيم مقام الصّلاة بالشّرع، والشّرع ورد بالإيماء بالرّأس فلا يقام غيره مقامه‏.‏

وقال زفر‏:‏ لو عجز عن الإيماء بتحريك الرّأس يومئ بالحاجبين أوّلا، فإن عجز فبالعينين، فإن عجز فبقلبه، لأنّ الصّلاة فرض دائم لا يسقط إلاّ بالعجز، فما عجز عنه يسقط وما قدر عليه يلزمه بقدره، فإذا قدر بالحاجبين كان الإيماء بهما أولى لأنّهما أقرب إلى الرّأس، فإن عجز يومئ بعينيه لأنّهما من الأعضاء الظّاهرة، وجميع البدن ذو حظّ من هذه العبادة فكذا العينان، فإن عجز فبالقلب، لأنّه في الجملة ذو حظّ من هذه العبادة وهو النّيّة، ألا ترى أنّ النّيّة شرط صحّتها، فعند العجز تنتقل إليه‏.‏

وقال الحسن بن زياد‏:‏ يومئ بعينيه وحاجبيه ولا يومئ بقلبه، لأنّ أركان الصّلاة تؤدّى بالأعضاء الظّاهرة، أمّا الباطنة فلا حظّ لها من أركانها بل لها حظّ من الشّرط وهو النّيّة، وهي قائمة أيضا عند الإيماء فلا يؤدّى به الأركان والشّرط جميعاً‏.‏

وقال المازريّ من المالكيّة‏:‏ مقتضى المذهب أنّه إن لم يقدر إلاّ على النّيّة مع قدرته على الإيماء بطرفه أو حاجبه فإنّه يفعل ما يقدر عليه وجوبا ويكون مصلّيا بذلك، وإن لم يقدر إلاّ على النّيّة وجبت‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن عجز المكلّف عن أركان الصّلاة بهيئتها الأصليّة أومأ برأسه، والسّجود أخفض من الرّكوع، فإن عجز عن الإيماء برأسه فبطرفه، ومن لازمه الإيماء بجفنه وحاجبه، وظاهر كلامهم أنّه لا يجب هنا إيماء للسّجود أخفض وهو متّجه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن عجز عن الرّكوع والسّجود أومأ بهما برأسه ما أمكنه، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، فإن عجز أومأ بطرفه ونوى بقلبه، وظاهر كلام جماعة لا يلزمه، وصوّبه في الفروع‏.‏ ولم نقف على نصّ لهم في الإيماء بالحاجب‏.‏

ثالثاً‏:‏ الأخذ من شعر الحاجب

7 - اختلف الفقهاء في حكم الأخذ من شعر الحاجبين للرّجل والمرأة وينظر الخلاف في ذلك وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏تنمّص‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ الجناية على الحاجب

8 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ في الجناية على شعر الحاجب إذا لم ينبت الدّية، وفي أحد الحاجبين نصف الدّية، قالوا‏:‏ لأنّ في هذه الجناية إتلافاً للجمال على الكمال وإتلافا للمنفعة أيضاً، لأنّ الحاجب يردّ العرق عن العين ويفرّقه‏.‏

ولا فرق عندهم في هذا الحكم بين كون الحاجب كثيفاً أو خفيفاً، جميلاً أو قبيحاً، أو كونه من صغير أو كبير، لأنّ سائر ما فيه الدّية من الأعضاء لا يفترق فيه الحال بذلك‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّما تجب الدّية في الحاجبين بذهابهما على وجه لا يرجى عودهما بإتلاف منبت الشّعر، فإن رجي عودهما في مدّة انتظر إليها، فإن عاد الشّعر قبل أخذ الدّية لم تجب، وإن عاد بعد أخذها ردّت‏.‏ ولا قصاص عندهم في شعر الحاجب، لأنّ إتلافه يكون بالجناية على محلّه - منبته - وهو غير معلوم المقدار فلا تمكن المساواة فيه، فلا يجب فيه القصاص‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ في الجناية على شعر الحاجب إن لم ينبت حكومة، وأنّ الشّعور لا قود فيها قطعاً، وتجب الحكومة فيما شأنه الزّينة منها، فإن نبت الشّعر وعاد لهيئته فلا شيء فيه إلاّ الأدب في العمد‏.‏

خامساً‏:‏ اتّخاذ القاضي أو الأمير حاجباً

9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يجوز للأمير والقاضي اتّخاذ حاجب، والمرجع في ذلك الشّرع، فقد حجب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان لأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه حاجب هو سديف مولاه، وكان لعثمان بن عفّان رضي الله عنه حمران، وكان لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قنبر مولاه، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي عضّوا عليها بالنّواجذ»‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ يسوغ للقاضي اتّخاذ من يقوم بين يديه لصرف أمره ونهيه، وكفّ أذى النّاس عنه، وكفّ بعضهم عن بعض‏.‏

وقال أصبغ‏:‏ حقّ على الإمام أن يوسّع على القاضي في رزقه، ويجعل له قوماً يقومون بأمره، ويدفعون النّاس عنه، إذ لا بدّ له من أعوان يكونون حوله يزجرون من ينبغي زجره من المتخاصمين‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ ينبغي للحاكم والقاضي أن لا يتّخذ حاجباً يحجب النّاس عن الوصول إليه، لما روى أبو مريم رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من ولّاه اللّه عزّ وجلّ شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب اللّه عنه دون حاجته وخلّته وفقره»‏.‏

ولأنّ حاجب القاضي ربّما قدّم المتأخّر وأخّر المتقدّم لغرض له، وربّما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم، ولا بأس عندهم باتّخاذ حاجب في غير مجلس القضاء، وفي حال الزّحمة وكثرة النّاس‏.‏

وقال القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ من الشّافعيّة‏:‏ يستحبّ للقاضي أن يتّخذ حاجباً يقوم على رأسه إذا قعد للقضاء ليقدّم الخصوم ويؤخّرهم، وأضاف ابن أبي الدّم الحمويّ الشّافعيّ‏:‏ وهذا هو الصّحيح ولا سيّما في زمننا هذا، مع فساد العوّام، فإنّه متى كان للحاكم حاجب رتّب الخصوم، وقدّم من حضر أوّلاً على من تأخّر، ومنعهم من المخاصمة على التّقدّم والتّأخّر، وزجر الظّالم منهم، وأخذ بيد المظلوم، وفيه أبّهة عظيمة للحاكم‏.‏‏.‏‏.‏ وكلام الشّافعيّ رضي الله عنه - وغيره‏:‏ أنّه لا ينبغي أن يتّخذ حاجباً - محمول على ما إذا قصد بالحاجب الاحتجاب عن النّاس والاكتفاء به، أو حالة الخوف من ارتشاء الحاجب‏.‏

شروط الحاجب وآدابه

10 - قال القاضي الماورديّ‏:‏ يشترط في الحاجب ثلاثة شروط مستحقّة، وهي‏:‏ العدالة والعفّة والأمانة، وخمسة مستحبّة وهي‏:‏ أن يكون حسن المنظر، وجميل المخبر، وعارفا بمقادير النّاس، وبعيدا عن الهوى، ومعتدل الأخلاق بين الشّراسة واللّين‏.‏

وفصّل السّمنانيّ فقال‏:‏ ينبغي أن يختار القاضي من الحجبة من لا يتجهّم الخصوم ولا يختصّ بعضهم دون بعض بالوصول، وتكون له معرفة بأوقات ما يجوز أن يستأذن فيها بالحضور لمن يقصد القاضي، ويعرف من جاء خصماً، أو زائراً، أو طالباً لرفده، أو سائلا، أو مستفتيا له في الحكم والشّرع، ويوعز إليه القاضي في بسط الوجه ولين الكنف ورفع المئونة وحسن اللّفظ، وكفّ الأذيّة والسّرعة في أمره بإدخال كلّ إنسان مع خصمه إذا أذن بدخوله من غير تأخير لأحد منهما عن صاحبه بأوجز بيان، ويسهّل لهما السّبيل، وإذا كان الدّاخل رجلا له قدر ولا خصومة له مع أحد، وإنّما أتى لزيارة القاضي، فينبغي للحاجب أن يتقدّم بين يديه ويستقبله قبل دخوله على القاضي ويدخل بين يديه ينبّه على موضعه ومكانه‏.‏ وينبغي أن يكون دخول الحاجب على القاضي قبل جميع النّاس ليعرف من حضر على الباب ثمّ يأذن لمن يريد الدّخول عليه والحديث معه‏.‏

وأضاف السّمنانيّ‏:‏ وينبغي أن يتفقّد القاضي من على بابه من أصحابه وأعوانه ومن يجري مجراهم، ويمنعهم من المآكل الرّديّة، ويقوّم منهم من يجب تقويمه، ويبعد منهم من كان معروفا بالفساد والخيانة، لأنّ عيبهم راجع إليه وفعلهم عار عليه، وإذا اطّلع منهم على الفساد والخيانة ولم ينكر ذلك شاركهم في الإثم، وربّما كان ذلك ممّا يوجب فسقه إذا أقرّهم عليه مع قدرته على إنكاره وإزالته، لأنّهم أعوان الشّرع والدّين، فيجب عليهم أن يكونوا أعرف بالشّرع وأقوم بالدّين‏.‏

سادساً‏:‏ الحاجب في الميراث

11 - الحاجب في الميراث‏:‏ هو المانع لمن تأهّل للميراث _ بأن قام به سببه _ من الإرث بالكلّيّة أو من أوفر حظّيه لوجوده _ أي المانع _، وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏حجب‏)‏‏.‏

حاجة

التّعريف

1 - الحاجة تطلق على الافتقار، وعلى ما يفتقر إليه‏.‏

واصطلاحاً هي - كما عرّفها الشّاطبيّ - ما يفتقر إليها من حيث التّوسعة ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المصلحة، فإذا لم تراع دخل على المكلّفين - على الجملة - الحرج والمشقّة‏.‏

ويعتبرها الأصوليّون مرتبة من مراتب المصلحة، وهي وسط بين الضّروريّ والتّحسينيّ‏.‏ والفقهاء كثيراً ما يستعملون الحاجة بالمعنى الأعمّ وهو ما يشمل الضّرورة، ويطلقون الضّرورة مراداً بها الحاجة الّتي هي أدنى من الضّرورة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الضّرورة‏:‏

2 - الضّرورة لغة من الضّرّ خلاف النّفع، قال الأزهريّ‏:‏ كلّ ما كان سوء حال وفقر وشدّة في بدن فهو ضرّ بالضّمّ، وما كان ضدّ النّفع فهو بفتحها‏.‏

وعرّفها الجرجانيّ بأنّها النّازل ممّا لا مدفع له‏.‏

وهي عند الأصوليّين‏:‏ الأمور الّتي لا بدّ منها في قيام مصالح الدّين والدّنيا وهي حفظ الدّين والعقل والنّفس والنّسل والمال‏.‏ بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدّنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة،وفي الأخرى فوت النّجاة والنّعيم والرّجوع بالخسران المبين‏.‏ والفرق بين الحاجة والضّرورة، أنّ الحاجة وإن كانت حالة جهد ومشقّة فهي دون الضّرورة، ومرتبتها أدنى منها ولا يتأتّى بفقدها الهلاك‏.‏

ب _ التّحسين‏:‏

3 - التّحسين لغة‏:‏ التّزيين‏.‏ والتّحسين باعتبار ملاءمة الطّبع كقولنا‏:‏ ريح الورد حسن، أو باعتباره صفة كمال، كقولنا‏:‏ العلم حسن، فمصدره العقل بلا خلاف‏.‏

والتّحسين باعتبار الثّواب الشّرعيّ فيه خلاف بين المعتزلة القائلين بأنّ العقل يستقلّ بإدراك الحسن والقبح، والأشاعرة القائلين بأنّ مصدره الشّرع، والماتريديّة القائلين بأنّ العقل يستقلّ بإدراك حسن وقبح بعض الأفعال، ولا يلزم أن يأتي الشّرع على وفق إدراكنا كحالة خفيت على عقولنا‏.‏

والتّحسينات كمقصد من مقاصد الشّريعة هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنّب الأحوال المدنّسات الّتي تأنفها العقول الرّاجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق والصّفات‏.‏ أو هي ما لا تدعو إليها ضرورة ولا حاجة ولكن تقع موقع التّحسين والتّيسير ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات‏.‏ وعلى ذلك تكون التّحسينات رتبة أدنى من رتبة الحاجيّات‏.‏ وينظر تفصيل هذا في مصطلح ‏(‏تحسين‏)‏ وفي الملحق الأصوليّ‏.‏

ج - الاستصلاح‏:‏

4 - المصالح المرسلة ما لا يشهد لها أصل من الشّارع لا بالاعتبار ولا بالإلغاء‏.‏

وتنقسم إلى ضروريّ وحاجيّ وتحسينيّ‏.‏ وهي بذلك أعمّ من الحاجة‏.‏

د - الرّخصة‏:‏

5 - الرّخصة هي ما استبيح بعذر مع قيام الدّليل المحرّم، أو هي ما بني على أعذار العباد‏.‏ وبذلك يظهر أنّ الرّخصة أثر للحاجة‏.‏

الاحتجاج بها

6 - الحاجة مرتبة وسط بين مراتب المصلحة، وفي الاحتجاج بها خلاف بين الأصوليّين‏.‏ قال الغزاليّ في المستصفى‏:‏ إن وقعت المصلحة في محلّ الحاجة فلا يجوز الحكم بمجرّدها إن لم تعتضد بأصل، إلاّ أنّها تجري مجرى الضّرورات، فلا بعد أن يؤدّي إليها اجتهاد مجتهد‏.‏ ومثل ذلك في روضة النّاظر‏.‏

ومن هنا قول بعض الحنفيّة‏:‏ إنّ الحاجة قد تنزل منزلة الضّرورة إذا عمّت‏.‏

وما مشى عليه الغزاليّ هو أحد أقوال ذكرها أبو إسحاق الشّاطبيّ في الاعتصام، وعزا هذا القول إلى القاضي وطائفة من الأصوليّين‏.‏

والقول الثّاني‏:‏ هو اعتبار ذلك، وبناء الأحكام عليه على الإطلاق، وهو للإمام مالك، قال القرافيّ في الذّخيرة‏:‏ هي حجّة عند الإمام مالك بدليل أنّ اللّه تعالى بعث الرّسل لتحصيل مصالح العباد عملا بالاستقراء فمهما وجدت مصلحة غلب على الظّنّ أنّها مطلوبة للشّرع‏.‏ والقول الثّالث‏:‏ هو اعتبار ذلك بشرط قربه من معاني الأصول الثّابتة وهو للشّافعيّ ومعظم الحنفيّة، وهذا ما حكاه الإمام الجوينيّ‏.‏ والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

مراعاة الحاجة مقصد من مقاصد الشّريعة

7 - الحاجة مفتقر إليها من حيث التّوسعة والتّيسير ورفع الضّيق المؤدّي إلى الحرج‏.‏ واليسر ودفع المشقّة والحرج في الأحكام الشّرعيّة من مبادئ الشّريعة‏.‏

يقول الشّاطبيّ‏:‏ إنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالمشاقّ والإعنات فيه‏.‏

والتّكاليف كلّها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم‏.‏

ومصالح الدّنيا والآخرة ثلاثة أقسام كلّ قسم منها في منازل متفاوتة‏.‏

أمّا مصالح الدّنيا فتنقسم إلى الضّرورات والحاجات والتّتمّات والتّكميلات فأقلّ المجزئ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح وغيرها ضروريّ‏.‏

وما كان من ذلك في أعلى المراتب كالمآكل الطّيّبات والملابس النّاعمات والقصور الواسعات فهو من التّتمّات والتّكميلات، وما توسّط بينهما فهو من الحاجات‏.‏

وأمّا مصالح الآخرة ففعل الواجبات واجتناب المحرومات ضروريّ، وفعل السّنن المؤكّدات من الحاجات، وما عدا ذلك من المندوبات فهي من التّتمّات والتّكميلات‏.‏

والحاجيّات وإن كانت أدنى رتبة من الضّروريّات باعتبار أنّ الضّروريّات هي الأصل إلاّ أنّ الحاجيّات مكمّلة لها، والمحافظة عليها وسيلة للمحافظة على الضّروريّات‏.‏ كما أنّ ترك الحاجيّات يؤدّي في النّهاية إلى ترك الضّروريّات، لأنّ المتجرّئ على الإخلال بالأخفّ معرّض للتّجرّؤ على ما سواه، فالمتجرّئ على الإخلال بالحاجيّات يتجرّأ على الإخلال بالضّروريّات‏.‏ ولذلك قصد الشّارع المحافظة على هذه القواعد الثّلاث ‏"‏ الضّروريّة، والحاجيّة، والتّحسينيّة وهي مسألة لا يرتاب في ثبوتها شرعاً أحد ممّن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشّرع وأنّ اعتبارها مقصود للشّرع، ودليل ذلك استقراء الشّريعة، والنّظر في أدلّتها الكلّيّة والجزئيّة، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامّة‏.‏

ما تجري فيه الحاجة

8 - الحاجة تراعى في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات‏.‏

ففي العبادات كالرّخص المخفّفة بالنّسبة إلى لحوق المشقّة بالمرض والسّفر‏.‏ وفي العادات كإباحة الصّيد والتّمتّع بالطّيّباتممّا هو حلال مأكلاً ومشرباً ومسكناً ومركباً وما أشبه ذلك‏.‏ وفي المعاملات كالقراض، والمساقاة، والسّلم، وإلغاء التّوابع في العقد على المتبوعات، كثمرة الشّجر ومال العبد‏.‏

وفي الجنايات كالحكم باللّوث، والتّدمية، والقسامة، وضرب الدّية على العاقلة، وتضمين الصّنّاع وما أشبه ذلك‏.‏

تنوّع الحاجة

تتنوّع الحاجة باعتبارات مختلفة ومن ذلك‏:‏

اعتبار العموم والخصوص

9 - الحاجة قد تكون عامّة بمعنى أنّ النّاس جميعا يحتاجون إليها فيما يمسّ مصالحهم العامّة كالحاجة إلى الزّراعة والصّناعة والتّجارة والسّياسة العادلة والحكم الصّالح‏.‏

ومن أجل ذلك شرعت عقود البيع والإجارة والمضاربة والمساقاة والكفالة والحوالة والصّلح وغيرها من العقود‏.‏ وهي في الغالب ما شرع في الأصل لعذر ثمّ صار مباحا ولو لم تكن هناك حاجة، ففي القرض مثلاً يجوز للإنسان أن يقترض وإن لم تكن به حاجة إلى الاقتراض، وفي المساقاة يجوز له أن يساقي على حائطه وإن كان قادراً على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه وهكذا‏.‏

كما أنّ تخلّف القليل من جزئيّات بعض العقود لا يخرج كلّيّات العقود عن الحاجيّة‏.‏

ففي فواتح الرّحموت مثّل للحاجيّات بعقود البيع والإجارة والمضاربة والمساقاة، ثمّ قال‏:‏ إلاّ قليلاً من جزئيّات بعض العقود فإنّها تكون من الضّروريّة مثل استئجار المرضعة للطّفل مثلا إذ لو لم يشرع تلف نفس الولد فوصل إلى ضرورة حفظ النّفس، وكذا شراء مقدار القوت واللّباس يتّقى به من الحرّ والبرد، لكن لقلّتها لا تخرج كلّيّات العقود عن الحاجيّة‏.‏

وقد تكون الحاجة خاصّة بمعنى أن يحتاج إليها فرد أو أفراد محصورون، وذلك مثل الحاجة إلى تضبيب الإناء بالفضّة، ومثل الحاجة إلى الأكل من الغنيمة في دار الحرب، والحاجة إلى لبس الحرير للرّجل لمرض كالجرب والحكّة، وإباحة تحلية آلات الحرب غيظا للمشركين والتّبختر بين الصّفّين في الحرب‏.‏

10 - وتختلف الحاجة من شخص إلى شخص فما يكون حاجة لشخص قد لا يكون حاجة لغيره، فالخادم قد يكون حاجة لشخص فقير كأن يكون من أهل البيوتات لا يتعاطى خدمة نفسه بيده فيفرض على من عليه نفقته أن يأتي له بخادم أمّا الشّخص العادي الّذي يخدم نفسه فليس في حاجة إلى الخادم‏.‏

باعتبار الأعصار والأمصار والقرون والأحوال

11 - قال القرافيّ في الفرق الثّاني والخمسين والمائتين‏:‏ يندب إقامة هيئات للأئمّة والقضاة وولاة الأمور بسبب أنّ المصالح والمقاصد الشّرعيّة لا تحصل إلاّ بعظمة الولاة في نفوس النّاس، وكان النّاس في زمان الصّحابة رضي الله عنهم معظم تعظيمهم إنّما هو بالدّين وسابق الهجرة، ثمّ اختلّ النّظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظّمون إلاّ بالهيئة والزّيّ فيتعيّن تفخيم الصّور حتّى تحصل المصالح‏.‏

وقد كان عمر رضي الله عنه يأكل خبز الشّعير والملح، ويفرض لعامله نصف شاة كلّ يوم لعلمه بأنّ الحالة الّتي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس النّاس ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة، فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى لحفظ النّظام، ولذلك لمّا قدم الشّام ووجد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قد اتّخذ الحجّاب وأرخى الحجاب واتّخذ المراكب النّفيسة والثّياب الهائلة العليّة وسلك ما يسلكه الملوك فسأله عن ذلك فقال‏:‏ إنّا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا، فقال له‏:‏ لا آمرك ولا أنهاك، ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إلى هذا فيكون حسنا أو غير محتاج إليه‏.‏

فدلّ ذلك من عمر وغيره على أنّ أحوال الأئمّة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والقرون والأحوال، فلذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديماً، وربّما وجبت في بعض الأحوال‏.‏

باعتبار الحكم الشّرعيّ

12 - من المعلوم أنّ الأحكام الشّرعيّة شرعت للتّسهيل على العباد إلاّ أنّ منها ما شرع من الأصل مراعى فيه المصلحة وحاجة النّاس فيباح ولو لغير حاجة، وذلك كالقرض والحوالة والوصيّة والشّركة والعاريّة وغيرها‏.‏

ومنها ما شرع لما يوجد من الأعذار ولذلك لا يباح إلاّ عند وجود السّبب كالفطر في الصّيام بسبب السّفر، فلا يباح الفطر لغير المسافر إلاّ إذا كان هناك سبب آخر وهكذا‏.‏

شروط الحاجة

للعمل بمقتضى الحاجة شروط تتلخّص فيما يلي‏:‏

1 - ألاّ يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال‏:‏

13 - الضّروريّات أعلى رتب المقاصد، وتعتبر أصلاً لما عداها من الحاجيّات، والتحسينيات الّتي تعتبر مكمّلة للأصل‏.‏

ومن شرط اعتبار الأدنى ألاّ يعود على الأصل بالإبطال‏.‏ يقول الشّاطبيّ‏:‏ كلّ تكملة فلها - من حيث هي تكملة - شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أنّ كلّ تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها لا يصحّ اشتراطها عند ذلك لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ في إبطال الأصل إبطال التّكملة، لأنّ التّكملة مع ما كمّلته كالصّفة مع الموصوف، فإذا كان اعتبار الصّفة يؤدّي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصّفة أيضا، فاعتبار هذه التّكملة على هذا الوجه مؤدّ إلى عدم اعتبارها، وهذا محال لا يتصوّر، وإذا لم يتصوّر لم تعتبر التّكملة، واعتبر الأصل من غير مزيد‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّا لو قدّرنا تقديراً أنّ المصلحة التّكميليّة تحصل مع فوات المصلحة الأصليّة لكان تحصيل الأصليّة أولى بالاعتبار فيجب أن تترجّح على التّكميليّة، لأنّ حفظ المصلحة يكون بالأصل، وغاية التّكميليّة أنّها كالمساعد لما كمّلته فإذا عارضته فلا تعتبر‏.‏

وبيان ذلك أنّ حفظ المهجة مهمّ كلّيّ، وحفظ المروءات مستحسن، فحرّمت النّجاسات حفظا للمروآت، فإن دعت الضّرورة إلى إحياء المهجة بتناول النّجس كان تناوله أولى‏.‏

وكذلك أصل البيع ضروريّ، ومنع الغرر والجهالة مكمّل، فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع، وكذلك الإجارة ضروريّة أو حاجيّة، واشتراط وجود العوضين في المعاوضات من باب التّكميلات، ولمّا كان ذلك ممكناً في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلاّ في السّلم‏.‏ وذلك في الإجارات ممتنع، فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسدّ باب المعاملة بها، والإجارة محتاج إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد، ومثله جار في الاطّلاع على العورات للمداواة وغيرها‏.‏

وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه، قال مالك‏:‏ لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين، فالجهاد ضروريّ، والوالي فيه ضروريّ، والعدالة فيه ‏(‏أي في الوالي‏)‏ مكمّلة للضّرورة، والمكمّل إذا عاد على الأصل بالإبطال لم يعتبر، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ «الجهاد واجب عليكم مع كلّ أمير، برّاً كان أو فاجراً»‏.‏ وكذلك الصّلاة خلف ولاة السّوء‏.‏ قال الشّاطبيّ‏:‏ وأشياء كثيرة من هذا القبيل في الشّريعة تفوق الحصر كلّها جاء على هذا الأسلوب‏.‏

2 - أن تكون الحاجة قائمة لا منتظرة‏:‏

14 - للأخذ بمقتضى الحاجة من التّرخّص يشترط أن يكون سبب الحاجة موجوداً فعلاً وليس منتظرا، واعتبار وجود الحاجة شرطاً للأخذ بمقتضاها إنّما هو فيما شرع من الرّخص لما يوجد من أعذار، أمّا ما شرع أصلا للتّيسير والتّسهيل على العباد مراعاة لحاجاتهم كعقود الإجارة والقراض والقرض والمساقاة فلا ينطبق عليها هذا الشّرط‏.‏

وتظهر هذه القاعدة بوضوح في الفروع الفقهيّة المبنيّة على الرّخص ومن أمثلة ذلك‏:‏

أ - السّفر من الأعذار الّتي تبيح قصر الصّلاة والفطر للصّائم‏.‏ إلاّ أنّه لا يجوز قصر الصّلاة إلاّ إذا بدأ المسافر بالسّفر فعلاً‏.‏

يقول ابن قدامة‏:‏ ليس لمن نوى السّفر القصر حتّى يخرج من بيوت قريته ويجعلها وراء ظهره، وبهذا قال مالك والشّافعيّ والأوزاعيّ وأبو ثور وحكي ذلك عن جماعة من التّابعين لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ‏}‏ ولا يكون ضاربا في الأرض حتّى يخرج، وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة، قال أنس‏:‏ صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم الظّهر بالمدينة أربعاً أي مقيماً وبذي الحليفة ركعتين أي مسافراً»، متّفق عليه‏.‏

وقال ابن قدامة أيضا‏:‏ من نوى السّفر في رمضان لا يباح له الفطر حتّى يخلّف البيوت وراء ظهره يعني أنّه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها، ولا يوصف بكونه مسافراً حتّى يخرج من البلد ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصّلاة‏.‏

وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في أبوابه‏.‏

ب - عدم وجود الماء للوضوء يبيح رخصة التّيمّم لكن يشترط دخول وقت الصّلاة فلا يتيمّم لفريضة إلاّ بعد دخول وقتها خلافا للوضوء إذ يجوز قبل دخول وقت الصّلاة‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في موضعه‏.‏

ج - قال القليوبيّ‏:‏ لو كانت الحاجة غير ناجزة فهل يجوز الأخذ لما عساه يطرأ‏؟‏ الظّاهر لا، كاقتناء الكلب لما عساه يكون من الزّرع، ونحوه‏.‏

د - في الفواكه الدّواني‏:‏ وقع الخلاف بين العلماء في الأكل ممّا يمرّ عليه الإنسان في الطّريق من نحو الفول والفواكه ولبن الغنم بغير إذن المالك، ومحصّله الجواز للمحتاج من غير خلاف وأمّا غير المحتاج فقيل‏:‏ بالجواز وقيل‏:‏ بعدمه‏.‏

قال النّفراويّ‏:‏ الظّاهر من تلك الأقوال المنع، لعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه»‏.‏

هـ - في الفروق للقرافيّ‏:‏ الغيبة محرّمة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا‏}‏، واستثني من الغيبة صور، منها‏:‏ النّصيحة، «لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين شاورته لمّا خطبها معاوية وأبو جهم‏:‏ أمّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له»‏.‏ فذكر عيبين فيهما ممّا يكرهانه لو سمعاه، فذلك لمصلحة النّصيحة، ويشترط في هذا القسم أن تكون الحاجة ماسّة لذلك احترازاً من ذكر عيوب النّاس مطلقا فهذا حرام بل لا يجوز إلاّ عند مسيس الحاجة‏.‏

3 - ألاّ يكون الأخذ بمقتضى الحاجة مخالفاً لقصد الشّارع‏:‏

15 - قال الشّاطبيّ‏:‏ قصد الشّارع من المكلّف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التّشريع، والشّريعة موضوعة لمصالح العباد، والمطلوب من المكلّف أن يجري على ذلك في أفعاله، وألاّ يقصد خلاف ما قصد الشّارع‏.‏ وقال الشّاطبيّ أيضاً‏:‏ فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعيّة فهذا هو المطلوب، وإن كان الظّاهر موافقاً، والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع‏.‏ ا هـ‏.‏

وعلى ذلك لا يجوز مخالفة ما ورد به الشّرع في العقود الّتي أبيحت للحاجة تيسيرا وتسهيلا لمصالح النّاس‏.‏ ومن ذلك النّكاح فالمقصد الأصليّ منه التّناسل، ويلي ذلك طلب السّكن والتّعاون على المصالح الدّنيويّة والأخرويّة من الاستمتاع بالحلال، والتّحفّظ من الوقوع في المحظور، فجميع هذا مقصود للشّارع من شرع النّكاح، ونواقض هذه الأمور مضادّة لمقاصد الشّارع، كما إذا نكحها ليحلّها لمن طلّقها ثلاثا، وكنكاح المتعة، وكلّ نكاح على هذا السّبيل‏.‏ وفي بعض ذلك خلاف يرجع إليه في مصطلح‏:‏ ‏(‏نكاح‏)‏‏.‏

ومن ذلك الإجارة فإنّها شرعت لحاجة النّاس فيجب اجتناب ما نهى عنه الشّرع ولذلك لا يجوز الاستئجار على النّوح والغناء والزّمر وكلّ ما منفعته محرّمة‏.‏

والقرض شرع لحاجة النّاس ومصلحة المعروف للعباد، ومتى خرج عن باب المعروف امتنع، إمّا لتحصيل منفعة المقرض، أو لتردّده بين الثّمن والسّلف لعدم تعيّن المعروف مع تعيّن المحذور وهو مخالفة القواعد‏.‏

والمقصود بشرعيّة الزّكاة رفع رذيلة الشّحّ وتحقيق مصلحة إرفاق المساكين، فمن وهب في آخر الحول ماله هربا من وجوب الزّكاة عليه ثمّ إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشّحّ وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين، فصورة هذه الهبة ليست هي الهبة الّتي ندّب الشّرع إليها، لأنّ الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له وتوسيع عليه غنيّاً كان أو فقيراً، وهذه الهبة تنافي قصد الشّارع في رفع الشّحّ عن النّفوس، والإحسان إلى عباد اللّه والقصد غير الشّرعيّ هادم للقصد الشّرعيّ‏.‏

كذلك لا يجوز أن يتحيّل الإنسان لإيجاد سبب يترخّص بمقتضاه، كمن أنشأ سفراً ليقصر الصّلاة أو أنشأ سفرا في رمضان ليأكل في النّهار، أو كان له مال يقدر على الحجّ به فوهبه كي لا يجب عليه الحجّ، وكالهروب من الزّكاة بجمع المتفرّق أو تفريق المتجمّع، وكالزّوجة الّتي ترضع جارية الزّوج أو الضّرّة لتحرم عليه، أو إثبات حقّ لا يثبت كالوصيّة للوارث في قالب الإقرار بالدّين‏.‏ وفي أصل هذه القاعدة وما بني عليها من فروع خلاف وتفصيل في مواضعه وفي بحث‏:‏ ‏(‏حيلة‏)‏‏.‏

الحاجة تنزّل منزلة الضّرورة

16 - من القواعد الفقهيّة الّتي ذكرها ابن نجيم والسّيوطيّ، والزّركشيّ - وهي في مجلّة الأحكام - أنّ الحاجة العامّة أو الخاصّة تنزّل منزلة الضّرورة‏.‏

ومعنى كون الحاجة عامّة أنّ النّاس جميعاً يحتاجون إليها فيما يمسّ مصالحهم العامّة من تجارة وزراعة وصناعة وسياسة عادلة وحكم صالح‏.‏

ومعنى كون الحاجة خاصّة أن يحتاج إليها فرد أو أفراد محصورون أو طائفة خاصّة كأرباب حرفة معيّنة‏.‏ والمراد بتنزيلها منزلة الضّرورة أنّها تؤثّر في الأحكام فتبيح المحظور وتجيز ترك الواجب وغير ذلك، ممّا يستثنى من القواعد الأصليّة‏.‏

17 - أ - والحاجة العامّة كالإجارة والجعالة والحوالة وغيرها، قال الزّركشيّ نقلا عن إمام الحرمين‏:‏ إنّ عقد الكتابة والجعالة والإجارة ونحوها جرت على حاجات خاصّة تكاد تعمّ، والحاجة إذا عمّت كانت كالضّرورة، فتغلب فيها الضّرورة الحقيقيّة‏.‏

ومنها مشروعيّة الإجارة مع أنّها وردت على منافع معدومة، يعني أنّ الشّرع كما اعتنى بدفع ضرورة الشّخص الواحد فكيف لا يعتني به مع حاجة الجماعة، ولو منعت الجماعة ممّا تدعو الحاجة إليه لنال آحاد الجماعة ضرورة تزيد على ضرورة الشّخص الواحد فهي بالرّعاية أولى‏.‏

ومنها ضمان الدّرك جوّز على خلاف القياس، إذ البائع إذا باع ملك نفسه ليس ما أخذه من الثّمن دينا عليه حتّى يضمن، ولكن جوّز لاحتياج النّاس إلى معاملة من لا يعرفونه، لأنّه لا يؤمن خروج المبيع مستحقّاً‏.‏

ومنها مسألة العلج ‏"‏ الكافر ‏"‏ الّذي يدلّ على قلعة الكفّار بجارية منها يصحّ للحاجة، مع أنّ الجعل المعيّن يجب أن يكون معلوماً مقدوراً على تسليمه مملوكاً وهو مفقود هنا‏.‏

والصّلح إنقاص للحقّ ويترتّب عليه أخذ مال الغير بدون وجه مشروع وهو جائز، لأنّا إذا أجمعنا على بذل المال بغير حقّ في فداء الأسرى والمخالعة والظّلمة والمحاربين والشّعراء فكذلك هاهنا لدرء الخصومة‏.‏ وذكر ابن القيّم أنّه يباح من ربا الفضل ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا _ وهي بيع الرّطب بالتّمر _ فهذا البيع في الحقيقة مشتمل على الرّبا، لأنّ الرّطب والتّمر من جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعا بلينه، فهو أزيد أجزاء من الآخر زيادة لا يمكن فصلها وتمييزها، ولا يمكن جعل الرّطب مساويا للتّمر عند كمال نضجه، فالمساواة مظنونة وليست متيقّنة، فلا يجوز قياساً بيع أحدهما بالآخر، لكن جاءت السّنّة النّبويّة مبيحة له للحاجة، روى البخاريّ ومسلم عن زيد بن ثابت «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رخّص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً»‏.‏ هذه بعض أمثلة للحاجة العامّة‏.‏

18 - ب - ومن أمثلة الحاجة الخاصّة ما يأتي‏:‏ ذكر الزّركشيّ من تطبيقات قاعدة الحاجة الخاصّة تبيح المحظور‏:‏ الأكل من طعام الكفّار في دار الحرب، فإنّه جائز للغانمين رخصة للحاجة ولا يشترط أن لا يكون معه طعام آخر بل يأخذ قدر كفايته وإن كان معه غيره‏.‏

ومن ذلك لبس الحرير لحاجة الجرب والحكّة وسكت الفقهاء عن اشتراط وجود ما يغني عنه من دواء أو لبس كما في التّداوي بالنّجاسة‏.‏

وذكر العزّ بن عبد السّلام في قواعده أنّه لا يجوز اقتناء الكلاب إلاّ لحاجة ماسّة كحفظ الزّرع والمواشي واكتساب الصّيود‏.‏ وغير ذلك كثير من المسائل الّتي ذكرها الفقهاء‏.‏

أسباب الحاجة

19 - الإنسان محتاج إلى ما يحقّق مصالحه الدّينيّة والدّنيويّة دون حرج ومشقّة وكلّ ما يلحق الإنسان من مشقّة وحرج لعدم تحقّق المصلحة يعتبر من أسباب الحاجة‏.‏

ولذلك يقول الشّاطبيّ‏:‏ الحاجيّات مفتقر إليها من حيث التّوسعة ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المطلوب‏.‏

ويمكن تقسيم أسباب الحاجة أو حالات الحاجة إلى قسمين‏:‏

الأوّل‏:‏ أسباب مصلحيّة في الأصل تتعلّق بالمصالح العامّة للنّاس في حياتهم الدّينيّة والدّنيويّة‏.‏ وهذه المصالح هي ما شرع لها ما يناسبها ويحقّقها كالبيع والإجارة وسائر العقود وكذلك أحكام الجنايات والقصاص والضّمان وغيرها‏.‏

والإنسان مكلّف بعبادة اللّه سبحانه وتعالى ما دامت حياته، ولا تتمّ حياته إلاّ بدفع ضروراته وحاجاته من المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من المنافع، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بإباحة التّصرّفات الدّافعة للضّرورات والحاجات‏.‏

وفي قواعد الأحكام امتنّ اللّه سبحانه وتعالى على عباده بما أباحه من البيع والشّراء، وبما جوّزه من الإجارات والجعالات والوكالات تحصيلا للمنافع الّتي لا تحصى كثرة‏.‏

الثّاني‏:‏ أسباب هي أعذار طارئة‏.‏ قال السّيوطيّ وابن نجيم‏:‏ أسباب التّخفيف في العبادات وغيرها سبعة، وهي‏:‏ السّفر، والمرض، والإكراه، والنّسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى، والنّقص‏.‏

وفي تفصيل هذه الأسباب يرجع إلى مصطلح‏:‏‏(‏تيسير‏:‏ ج /14 ص /211 من الموسوعة‏)‏‏.‏

الحاجة تقدّر بقدرها

20 - ما شرع من الحاجيّات الكلّيّة تيسيراً وتسهيلاً لمصالح النّاس له صفة الدّوام والاستمرار، يستفيد منه المحتاج وغير المحتاج كالقرض، والقراض، والمساقاة، وغير ذلك ولا يدخل تحت قاعدة ‏(‏الحاجة تقدّر بقدرها‏)‏‏.‏

أمّا ما شرع من الأحكام تخفيفا وترخيصا بسبب الأعذار الطّارئة فهو الّذي يباح بالقدر الّذي تندفع به الحاجة، وتزول الإباحة بزوال الحاجة‏.‏ ومن أمثلة ذلك‏:‏

أ - إذا عمّ الحرام قطرا بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادرا فإنّه يجوز للإنسان أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضّرورات ‏;‏ لأنّه لو وقف عليها لأدّى إلى ضعف العباد، واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام ولا نقطع النّاس عن الحرف والصّنائع والأسباب الّتي تقوم بمصالح الأنام‏.‏ قال إمام الحرمين الجوينيّ‏:‏ ولا يتبسّط في هذه الأموال كما يتبسّط في المال الحلال، بل يقتصر على قدر الحاجة دون أكل الطّيّبات ونحوها ممّا هو كالتّتمّات‏.‏

ب - نظر الشّهود للمرأة لتحمّل الشّهادات ونظر الأطبّاء لحاجة المداواة والنّظر إلى المرغوب في نكاحها قبل العقد عليها إن كانت ممّن ترجى إجابتها، والنّظر لإقامة شعائر الدّين كالختان وإقامة الحدّ على الزّناة‏.‏ كلّ ذلك جائز للحاجة، ويحرم النّظر فيما زاد على الحاجة‏.‏

الحاجات غير المحدودة لا تترتّب في الذّمّة

21 - الحقوق من الحاجات غير المحدودة لازمة للإنسان ومطالب بها، غير أنّها لا تترتّب في ذمّته وذلك لما يأتي‏:‏ أنّها لو ترتّبت في ذمّته لكانت محدودة معلومة، إذ المجهول لا يترتّب في الذّمّة ولا يعقل نسبته إليها، فلا يصحّ أن يترتّب دينا‏.‏ ومثاله الصّدقات المطلقة، وسدّ الخلّات، ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى‏.‏‏.‏‏.‏ فإذا قال الشّارع‏:‏ أطعموا القانع والمعترّ، أو قال‏:‏ اكسوا العاري، أو‏:‏ أنفقوا في سبيل اللّه، فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كلّ واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار، فإذا تعيّنت حاجة تبيّن مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنّظر لا بالنّصّ، فإذا تعيّن جائع فالمخاطب مأمور بإطعامه وسدّ خلّته بمقتضى ذلك الإطلاق، فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطّلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة الّتي من أجلها أمر ابتداء، والّذي هو كاف يختلف باختلاف السّاعات والحالات في ذلك المعيّن‏.‏

تقديم الحوائج بعضها على بعضه

22 - إذا اجتمعت الحوائج وأمكن تحصيلها حصلت، وذلك مثل المستحقّين من الزّكاة إذا أمكن إيفاء حاجة الجميع، فإن تعذّر إيفاء حاجة الجميع قدّم الأشدّ حاجة على غيره‏.‏ ولذلك لا يجوز أن يتصدّق الإنسان بصدقة تطوّع وهو محتاج إلى ما يتصدّق به لنفقته أو نفقة عياله‏.‏ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ ‏{‏رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ عندي دينار، قال‏:‏ أنفقه على نفسك، قال‏:‏ عندي آخر، قال‏:‏ أنفقه على ولدك، قال‏:‏ عندي آخر قال‏:‏ أنفقه على أهلك، قال‏:‏ عندي آخر قال‏:‏ أنفقه على خادمك، قال‏:‏ عندي آخر، قال‏:‏ أنت أعلم به‏}‏‏.‏ وقال ابن قدامة في إخراج الزّكاة‏:‏ يستحبّ أن يبدأ بالأقرب فالأقرب إلاّ أن يكون منهم من هو أشدّ حاجة فيقدّمه، ولو كان غير القرابة أحوج أعطاه، فإن تساووا قدّم من هو أقرب إليه، ثمّ من كان أقرب في الجوار وأكثر دينا‏.‏ ويقول العزّ بن عبد السّلام في قواعده‏:‏ النّفقات الّتي ليست من العبادات المفتقرات إلى النّيّات فيقدّم المرء نفسه على نفقة آبائه وأولاده وزوجاته، ويقدّم نفقة زوجاته على نفقة آبائه وأولاده ‏;‏ لأنّها من تتمّة حاجاته‏.‏ وإذا اجتمع مضطرّان فإن كان معه ما يدفع ضرورتهما لزمه الجمع بين دفع الضّرورتين تحصيلا للمصلحتين، وإن وجد ما يدفع ضرورة أحدهما، فإن تساويا في الضّرورة والقرابة والجوار والصّلاح احتمل أن يتخيّر بينهما، واحتمل أن يقسمه عليهما، وإن كان أحدهما أولى مثل أن يكون والدا، أو والدة، أو قريبا، أو زوجة، أو إماما مقسطا، أو حاكما عدلا، قدّم الفاضل على المفضول‏.‏

أثر الحاجة

23 - من المقرّر أنّ من مقاصد الشّريعة تحقيق مصالح النّاس تيسيرا لهم ودفعا للحرج والمشقّة عنهم‏.‏ والحاجيّات مفتقر إليها من حيث التّوسعة والتّيسير ورفع الضّيق المؤدّي إلى الحرج غالبا‏.‏ لذلك نجد أثر الحاجة في كثير من الأحكام الشّرعيّة‏.‏ ويمكن إجمال أثر الحاجة فيما يلي‏:‏

أوّلا‏:‏ الاستثناء من القواعد الشّرعيّة ‏(‏مخالفة القياس‏)‏‏:‏

24 - تظهر مخالفة القياس في كثير من العقود الّتي شرعت لمصالح العباد ودفع حوائجهم‏.‏ ومن ذلك عقد الإجارة، فإنّه جوّز على خلاف القياس‏.‏ والقياس في المضاربة عدم الجواز ‏;‏ لأنّها استئجار بأجر مجهول بل بأجر معدوم ولعمل مجهول لكن ترك القياس ‏;‏ لأنّ النّاس يحتاجون إلى عقد المضاربة ‏;‏ لأنّ الإنسان قد يكون له مال لكنّه لا يهتدي إلى التّجارة، وقد يهتدي إلى التّجارة لكنّه لا مال له، فكان في شرع هذا العقد دفع الحاجتين واللّه سبحانه وتعالى ما شرع العقود إلاّ لمصالح العباد ودفع حوائجهم‏.‏ ومن ذلك شرط الخيار فإنّه مخالف للقياس لكن ترك اعتبار القياس لحاجة النّاس‏.‏ ويقول القرافيّ‏:‏ اعلم أنّ قاعدة القرض خولفت فيها ثلاث قواعد شرعيّة، قاعدة الرّبا إن كان في الرّبويّات كالنّقدين والطّعام، وقاعدة المزابنة وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه إن كان في الحيوان ونحوه من غير المثليّات، وقاعدة بيع ما ليس عندك في المثليّات‏.‏ وسبب مخالفة هذه القواعد مصلحة المعروف للعباد‏.‏ وفي قواعد الأحكام للعزّ بن عبد السّلام‏:‏ اعلم أنّ اللّه تعالى شرع لعباده السّعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة تجمع كلّ قاعدة منها علّة واحدة ثمّ استثنى منها ما في ملابسته مشقّة شديدة، أو مفسدة تربو على المصلحة، وكذلك شرع لهم السّعي في درء مفاسد في الدّارين أو في إحداهما تجمع كلّ قاعدة منها علّة واحدة ثمّ استثنى منها ما في اجتنابه مشقّة شديدة، أو مصلحة تربو على المفسدة وكلّ ذلك رحمة بعباده، ويعبّر عن ذلك كلّه بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التّصرّفات‏.‏ ثانيا‏:‏ الأخذ بالأعراف والعادات‏:‏

25 - قد تقتضي مصالح النّاس وحوائجهم الأخذ بالعادات والأعراف‏.‏ لكن المقصود هو العرف الصّحيح، وهو ما تعارفه النّاس دون أن يحرّم حلالا أو يحلّ حراما‏.‏ ولذلك يقول الفقهاء‏:‏ الثّابت بالعرف كالثّابت بالنّصّ‏.‏ ومن القواعد الفقهيّة‏:‏ العادة محكّمة، أي معمول بها شرعا‏.‏ ويقول الشّاطبيّ‏:‏ العوائد الجارية ضروريّة الاعتبار شرعا، كانت شرعيّة في أصلها أو غير شرعيّة، أي سواء أكانت مقرّرة بالدّليل شرعا أمرا، أو نهيا، أو إذنا أم لا، أمّا المقرّرة بالدّليل فأمرها ظاهر، وأمّا غيرها فلا يستقيم إقامة التّكليف إلاّ بذلك‏.‏ ثمّ علّل ذلك فقال‏:‏ لأنّ الشّارع باعتباره المصالح كما هو معلوم قطعا لزم القطع بأنّه لا بدّ من اعتباره العوائد ‏;‏ لأنّ أصل التّشريع سبب للمصالح، والتّشريع دائم فالمصالح كذلك، وهو معنى اعتباره للعادات في التّشريع، ووجه آخر، وهو أنّ العوائد لو لم تعتبر لأدّى إلى تكليف ما لا يطاق وهو غير جائز أو غير واقع‏.‏ ويقول ابن عابدين في بيع الدّار‏:‏ الأصل أنّ ما لا يكون من بناء الدّار ولا متّصلا بها لا يدخل إلاّ إذا جرى العرف أنّ البائع لا يمنعه من المشتري، فالمفتاح يدخل استحسانا لا قياسا لعدم اتّصاله وقلنا بدخوله بحكم العرف‏.‏ ثالثا‏:‏ إباحة المحظور للحاجة وكذلك ما حرّم سدّا للذّريعة‏:‏

26 - الحرير محرّم على الرّجال ولكنّه يجوز لبسه للحاجة كإزالة الأذى والحكّة‏.‏ والنّظر إلى الأجنبيّة حرام لكنّه يباح عند الخطبة وللتّعليم وللإشهاد‏.‏ والمسألة حرام لما فيها من الذّلّة والامتهان، لكنّها تباح للحاجة، وقد حدّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم مواطن الحاجة الّتي تبيح السّؤال في حديث قبيصة بن مخارق الهلاليّ الّذي رواه مسلم، ‏{‏قال قبيصة‏:‏ تحمّلت حمالة فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال‏:‏ أقم حتّى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها، قال‏:‏ ثمّ قال‏:‏ يا قبيصة، إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لأحد ثلاثة‏:‏ رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتّى يصيبها ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة حتّى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتّى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه‏:‏ لقد أصابت فلانا فاقة، فحلّت له المسألة حتّى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا‏}‏‏.‏ ويقول ابن القيّم‏:‏ ما حرّم سدّا للذّريعة يباح للمصلحة الرّاجحة‏.‏ رابعا‏:‏ اعتبار الشّبهات في درء الحدود‏:‏

27 - ذكر ابن قدامة أنّ الحاجة شبهة دارئة لحدّ السّرقة فقد ورد أنّ عمر رضي الله عنه لم يقم حدّ السّرقة في عام المجاعة، وأسقطها عن غلمة حاطب بن أبي بلتعة حينما سرقوا بعيرا لآخر وذبحوه وأكلوه‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهذا محمول على من لا يجد ما يشتريه، أو لا يجد ما يشتري به، فإنّ له شبهة في أخذ ما يأكله‏.‏ وقد بنى ابن قدامة هذا على قول أحمد لا قطع في المجاعة‏.‏ وقوله لا أقطعه إذا حملته الحاجة والنّاس في شدّة ومجاعة‏.‏